من حق الشعب الموريتاني أن يرحب بمحاكمة الرئيس محمد ولد عبد العزيز وبعض معاونيه بتهمة الجرائم المالية التي ارتكبت خلال العقد الماضي. فتقديم رئيس سابق للعدالة هو بالفعل سابقة تاريخية في بلد تسود فيه ثقافة الإفلات من العقاب، حيث لا ينطبق القانون على الجميع بنفس الطريقة، كما لا يخضع أحد للمساءلة، ولا حتى رئيس قسم بسيط، من باب أولى رئيس الدولة.
الأمل في تحقيق نموذجي حول فساد العشرية
في ظل هذه الظروف، كان الكثير منا جد سعيد بالتحقيق البرلماني الذي مكّن من الشروع في هذه العملية، التي اعتبرها الموريتانيون ثورة في الحياة السياسية والمؤسساتية للبلاد. كنا نعتقد أنه سيكون هناك ما قبل وما بعد هذا الحدث التاريخي، وأنه سيغير الطريقة التي تمارس بها النخب الحاكمة مهامها وكيفية تعاملها مع المال العام.
لقد اعتقدنا أن التحقيق سيصبح مثالا يحتذى ودرسا للمستقبل، حيث يصبح الرؤساء والوزراء وكبار موظفي الدولة، من الآن فصاعدا، مسؤولين عن أفعالهم وسيولون اهتماما خاصا لكل ما يتعلق بالتسيير، وبالأخص منح العقود والصفقات العمومية.
كان أملنا كبيرا في أن يكون لاسترداد المكاسب غير المشروعة أثر رادع على مدى عدة أجيال، بغض النظر عن الملاحقات القضائية والإدانات، وأن المحاكمة ستجعل من الممكن الخروج جذريا من ثقافة الفساد الممنهج وأثره المباشر والمدمر على التنمية وعلى الظروف المعيشية للمواطنين وخاصة الفئات الأكثر فقرا.
كنا نأمل في تفكيك منظومة الفساد التي شيدها ولد عبد العزيز، إبان العشرية، باجتثاث كل المسؤولين عن النهب واستشراء الفساد، من وزراء وأمناء عامين، وتطهير الإدارة من المرتزقة الذين يساعدون عمليا في تنفيذ ومتابعة القرارات المشبوهة، أولئك الذين استوعبوا بالفعل "تقنيات" الفساد وهم دائما على استعداد لتسخير مهاراتهم وتقديم المساعدة لأي مسؤول يسعى إلى إثراء نفسه بطريقة غير مشروعة، من خلال إطلاعه، مقابل عمولات، على كيفية خرق وتطويع الإجراءات القانونية بطريقة "محترفة".
الاستياء وخيبة الأمل
لكن سرعان ما استسلم الرأي العام لخيبة الأمل، لأن هذا النظام الذي يدعي محاربة الفساد وينوي تقديم ولد عبد العزيز للعدالة، أظهر ازدواجية في إدارة ما بات يعرف بـ"ملف العشرية". وبعيدا عن انطباع الارتجالية والتردد اللذين أدير بهما الجانب السياسي للملف، فإن التصور العام لدى الجمهور هو الإحساس بتعامل انتقائي، مما شوه صورة العملية برمتها وأعطى انطباعا بأن وراءها تصفية للحسابات الشخصية.
وإلا فكيف لهذا النظام أن يقنع الموريتانيين أن أبرز معاوني محمد ولد عبد العزيز لن يساءلوا عن أفعالهم، بنفس الطريقة التي ستتم بها محاسبة ولي نعمتهم، رئيس الدولة السابق؟ كيف سيبرر النظام للرأي العام "تبييضهم"
واستثناءهم من العدالة؟ بأية معجزة، لا يُعتبرون شركاء في الانتهاكات التي ارتكبت، والتي لولا مشاركتهم الفعالة، بسبب التملق وسعيهم للإثراء غير المشروع على حساب الشعب، ما كان من الممكن أن تحدث. فالفساد الذي طبع فترة حكم الرئيس السابق والذي وصل إلى مستويات قياسية ما كان ليحدث لولا مساعدة هؤلاء الشركاء، الذين وافقوا، بتواطئهم الفعلي أو صمتهم، على تسهيل وتغطية انتهاك القوانين، لا سيما في مجال الصفقات العمومية.
فلا أحد يستطيع في الواقع الهروب من المسؤولية، عن طريق التذرع بالأوامر الصادرة من الرئيس، لأن القانون يمنح الجميع إمكانية الرفض، أو على الأقل الاستقالة. وبهذا السياق، فإن الوزير الذي يتلقى أمرا شفهيا من رئيس الجمهورية يطلب منه التصرف بشكل غير قانوني، لا يعتبر منفذا، بل مسؤولا وشريكا لعدم الامتناع عن تنفيذ أمر غير قانوني بشكل واضح، ولذلك يعرض نفسه للمساءلة بتهمة التواطؤ ولا يمكنه الاختباء وراء الامتثال للتعليمات.
من الواضح أن تعاون أقرب معاوني ولد عبد العزيز مع السلطة الجديدة هو الذي أدى إلى استثنائهم من المساءلة، حتى إنه لم تتم إقالتهم، مع أنه تحوم حولهم شبهات فساد جسيمة. إلا أن ذلك لم يكسبهم قبولا ولا احتراما لدى الرأي العام الذي ينظر إليهم على أنهم رموز فساد العشرية الذين شرعوا للرئيس السابق نهب خيرات البلاد، وسيشهد التاريخ أنهم ضالعون في انتهاكات صارخة ومخالفات واضحة، حتى وإن تمت "تبرئتهم" بِـ"فِعْلِ الأمير" أو "بمعجزة" قانونية.
إن تواطؤ هذا النظام مع النخب الفاسدة وتعيينهم في وظائف سامية لا يعزز فقط قدرتهم على النهب، وإنما يرسل بإشارات واضحة حول استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب والممارسات الفاسدة. كما يعتبر رسالة قوية لمنظومة الفساد أو ما يعرف بمصطلح "الدولة العميقة" أو بالأحرى"الدولة الفاسدة" من أجل مواصلة نهب واستنزاف خيرات البلد. فاستمرار النهج مع تغيير في رأس النظام فحسب قد يعني تراكم الفساد وظهور مستفيدين جدد، خاصة مع استمرار سياسة منح الصفقات العمومية بالتراضي على أساس المحسوبية لمن لا يستحقها وبمبالغ خيالية. هذه الصفقات التي أضرت بالاقتصاد وقتلت التنافس أدت الى نهب ممنهج لثروات البلاد من طرف نخبة فاسدة تعتبر السياسة الطريق الأسرع لتحقيق الثراء.
ماذا لو قرر ولد عبد العزيز الخروج عن صمته، ليريح ضميره وينتقم من شركائه الذين تركوه في وقت العسرة وارتموا في أحضان النظام الجديد؟ إذا اختار الرئيس السابق، الذي يعتبر الصندوق الأسود لكثير من الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد منذ قرابة ثلاثين سنة، أن يبوح بكل الأسرار التي بحوزته، سيكون البلد ممتنا له بالتأكيد، لأن مثل هذا السيناريو سيسمح للموريتانيين أن يعرفوا أخيرا الحقيقة الكاملة حول النخب التي حكمتهم خلال هذا العقد الضائع، وفضح الذين تورطوا منهم في قضايا الفساد، لا سيما الذين أفلتوا من العقاب وما زالوا يتقلبون في المناصب العليا وفي بعض مفاصل الدولة ومراكز القرار. كيف يمكننا أن نبني دولة دون تفكيك نفوذ هذه النخب، فالإصلاح السياسي لن يتم من دون استئصال النخب الفاسدة التي أوكلت إليها مسؤولية تنفيذ الكثير من السياسات التنموية ذات الأولوية، تتعلق بالبنى التحتية وحياة المواطنين ومستقبل الأجيال القادمة، فلا وطن ولا دولة ولا تنمية ولا ديموقراطية مع الفساد.