تابعت وبكثير من الاهتمام، البث المباشر، للرئيس محمد ولد عبد العزيز وقد لاحظت فيه دربة جديدة على الحديث السياسي...
وهي دربة بعيدة جدا من حالة الضابط الخجول والمتلعثم الذي عرفت.. والذي لم اقابل منذ عقد ونيف من الزمن..
لقد طور فيما يبدو نفسه وكسب مرانا على الجدل السياسي..
وتحسنت لغته كثيرا..وتجملت تعابيره عما كانت..
بدا اول الامر مجروحا..
بل شبه مذعور
من الوضعية القانونية التي آل اليها ملفه، وهو الملف الذي تدحرج طويلا بين المخافر والمحاكم لدرجة جعلت الرجل يدخل -حسب فهمي الخاص- في نوبة انكار او عدم تصديق زادت الملف تعقيدا .
وستنعكس على مستقبل الملف لا محالة.
انها حالة يعرفها علماء النفس..وهي أوالية عجيبة يخدع فيها الانسان نفسه.. ويستسلم لاعذب اوهامه...وقد لاحظتها في كلام مقربيه واقاربه منذ حملة 2019 ايام كان يلتفت اليك احدهم ويقول لك : انت ظرك شاك ان عزيز سيترك السلطة..؟
ولد الغزواني الا وقاف..ذاك جايكم..الخ
ثم في مرحلة لاحقة وبعد تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية :
تكرر العمل بآلية الانكار كقوله : اللجنة تعرفني... انا بعد يعرفوني ..وهدادة الحلمة على الشراطة ووو
انسجاما مع نفس تقنية الانكار راح ولد عبد العزيز في بثه المباشر يتحدث عن دوره في ايصال رئيس الجمهورية الحالي لمنصبه..
ونسى ان المحكمة غير معنية بالطريقة التي صار بها ولد الغزواني رئيسا للجمهورية..
ورغم ان موضوع وصول الرئيس غزواني للسلطة لا علاقة له بالوضعية الحالية فهو لم يأت فيه بجديد ..حيث كنت اتمنى ان يتحدث عن الصفقة -اذا كانت هناك صفقة- وهل كان هناك عراب غير موريتاني..؟
ولماذا بعد افشال تعديل الدستور نزل في مطار نواذيبو ؟
وما هي حقيقة الحديث الذي دار بينه والرئيس الحالي على قارعة الطريق في نواذيبو ؟
ولماذا تم انهاء ترشيحات موازية في آخر لحظة ..؟
وما هي حقيقة مباحثاته مع بيرام وغير بيرام قبيل اعلان النتائج..؟
ومازلنا نريد معرفة دور الضباط وكبراء الساسة في القصة ..
لو تقاسم معنا ذكرياته لافادنا حديثه من الناحية التاريخية.. لكنه طفق يشخصن الموضوع والاغرب في تعلاته وتعليلاته : انه لم يتردد في استخدام اي تصرف ودي من الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للبرهنة والاستدلال به ضده..
وهذه سذاجة لا تليق بشخص مارس الحكم والسياسة.
وأخطر ما فيها انها تفزع كل من يريد التضامن معه او التوسط لصالحه في المستقبل.
لقد اثار شفقتي كثيرا حين قال ان الرئيس اخبره بمساعي احمد ولد داداه ، محمد ولد مولود، وبيرام الداه اعبيد ضده ودفاع محمد ولد الغزواني المستميت عنه...
لقد فات عليه قبل مغادرة السلطة ان يتصالح مع الناس او ان يسعى لتخفيف التوتر
وبدا متحسرا من كراهية الناس له ودعمهم القوي لملاحقته ومتابعته.
والمؤسف انه اعتبر كلام محمد ولد الغزواني بمثابة صك براءة أبدي لصالحه.
نعم محمد ولد الشيخ الغزواني تلقى ضغوطا رهيبة للتحقيق في جرائم العشرية ليس فقط من هؤلاء... بل من جل الناس الطبيعيين في موريتانيا...ومحمد ولد الشيخ الغزواني تحرج كثيرا من تلك الضغوط بسبب وجود صداقة شخصية مع سلفه..
وسعى لحمايته..
لكن الرئيس السابق لم يعترف بتلك الجهود، وراح يناصبه العداء،
وساعتها توقف عن الدفاع عنه..
واغتنمتها المعارضة وبعض البرلمانيين المنزعجين من العشرية لاسباب كثيرة..
وشكلوا تلك اللجنة..
وهكذا بدأت القضية.
فلماذا فرط في مصالحه ..؟
انني اعتقد ان حالة الرئيس محمد ولد عبد العزيز تستحق المعاينة الكلينيكية للاسباب التالية :
انه يريد ان يتذوق طعم المعارض الكبير..
ويتعطش للمهرجانات وحمامات الزحام البشري..
هذا التعطش يمكن ان يقع لاي شخص مارس الديكتاتورية على اصولها..
هذا التعطش نابع من الرغبة في الاجابة على السؤال التقليدي الذي يفزع الرؤساء من قيادات المعارضة وهو :
لماذا يتحشد عشرات آلاف الناس خلف شخص معارض ؟
لماذا يحبون شخصا لا سلطة ولا مال لديه ...!؟
ومع تكرار السؤال يميل الحاكم لتمنى لعب دور المعارض ذات يوم...
ممارسة البهرجة السياسية.. والادمان المتولد من التعاطي مع الجماهير تجعل المعني يتجاوز الحسابات العقلانية..ثم ينقطع مع الوقت في دائرة خاصة لا يسمع فيها الا صدى نفسه ويميل الى تحويل قدرات المنصب الى قدرات الشخص الذي يشغل المنصب..
ومن هذا الالتباس تظهر باتولوجيا تضخم الأنا.
لقد فشلت كل الوساطات الطيبة لانقاذ معمر القذافي على صخرة قوله "الباتولوجي" انا لست رئيسا..
انا مجرد كاتب ومفكر...!
لقد كان يخيل للقذافي انه ملهم الثورات.. وان هامته ستبقى مرفوعة للابد.. حتى في الوقت الذي كان فيه جل شعب ليبيا يريد الامساك بخصلة من باروكة رأسه المنحنية والتي كشفت الصلعة البراقة تحتها عدمية التهيؤات الذاتية.. وسبلها المسدودة.
كنت اظن.. بل لعلي كتبت.. ان عاهلا او زعيما مهابا وعظيما، ربما تدخل عند رئيس موريتانيا لانهاء الوضعية القانونية لمحمد ولد عبد العزيز..
وحين رايت تمنع النيابة وتلكؤها وحتى انهاء فترة الاحتياط اعتبرت ذلك مقصودا ومتعمدا وصار من الراجح عندي ان صيغة ما تم التفاهم عليها...
وتفهمت المسعى المفترض...
خرج الرجل من السجن.. واستعاد جواز سفره.. ثم هرع الى الاعلام المباشر، وراح يرفع عقيرته في كل مكان.
وبتبجح مباغت وغير مفهوم اخذ يؤكد ان ليس هناك اتفاق او تشفع او تصالح.
على كل حال ، رفع تصريحه البارحة الحرج عن اي عاهل سبق وتشفع له..
او كان يزمع التدخل لصالحه..
اذ من المعروف ان الملوك والامراء العرب ، وهم وحدهم من يكترث بوضعية الرؤساء السابقين، بحكم تشبثهم بفكرة "اعرابية" تدعى المروءة يشترطون عادة للاستفادة من ألطافهم :
ان يلتمسها من يريدها.. وأن يحترمها ان هي منحت له..
واول احترام للعاهل المتدخل الامتناع عن اي تصرف او تصريح سياسي ضد السلطة التي جبرت خاطره، ونزلت عند رغبته، واطلقت له سراح السياسي المترجل، وفكت قيوده.
هكذا مثلا بموجب تدخل ملك السعودية عاش عيدي امين دادا ومات بالسعودية
وكذا زين العابدين بن على..وكذا تم تأمين روع نواز شريف ..وغيرهم كثير..
ولنفس السبب يوجد الرئيس معاوية في هدوء متواصل ومطبق الصمت بقطر..
وحين كان مختار ولد داداه بتونس بورقيبة لم ينبس بكلمة واحدة احتراما للمجاهد الاكبر.
المهم ...
الى ماذا تتجه الامور ؟
بكل وضوح تتجه الامور الى ادانة الرئيس السابق.. وبعض معاونيه..
بعقوبات قوية وجدية مثل السجن فوق عشر سنوات ستقضى في اغوار الصحراء.
ذلك ما ينضح من الملف المكتظ بالشهادات والأدلة والبيانات ...وهو ما سيدعمه عجز المتهمين عن تبرير الاموال التي حصلوا عليها في برهة يسيرة من الزمن وخلال شغلهم لمناصب فخيمة لا يليق بأصحابها التكسب والتربح وبيع النفوذ.
هل سيتدخل "شوابين" من أهل موريتانيا ويلتمسون من رئيس الجمهورية عفوا او تقليصا للعقوبة..؟
وهل سيقبل..؟
لا اعرف ...
لكنني اعرف ان الطريقة التبجحية الانكارية والاستعراضية لن تخدم متهما في هذا الملف بل ستزيده تعقيدا...وحزنا.
ان المشكلة الحقيقية عند محمد ولد عبد العزيز تكمن في انقطاعه من المعاينة الواقعية لحقيقة ملفه.. وفي حجم ثروته الضخمة .
وأخيرا وليس آخرا...
في عدم تقبله لحقيقة قانونية وسياسية أخرى مفادها :
ان محمد ولد الشيخ الغزواني الآن -اي تحت شمس هذا اليوم- هو الرئيس الوحيد للجمهورية الاسلامية الموريتانية.
اعتذر كثيرا عن ترخصي في تحليل شخصية رجل في خضم معاناة كان لها ان لا تكون لو تحلى صاحبها بقليل من القناعة..وقليل من الكياسة.. وقليل من التواضع.. وقليل من احترام الناس.
ولله الأمر من قبل ومن بعد..