العالم كله يعرف حجم الدين الخارجي للبلد الذي بلغ 104٪ من الدخل الوطني الخام حيث تمثل الكهرباء التي يتم قطعها باستمرار ولا تصل لآطراف العاصمة 40٪ من ذلك الدين. لقد توقفت قدرة البلد على التحمل عند هذا الحد ووصلت قدرته للاقتراض الحد الأعلى بحيث حرمته من الولوج إلى الصناديق الغربية التي تعطي بفوائد أقل من 1% .كانت موريتانيا مصنفة على أنها منطقة تبييض وكانت تحت مراقبة النظام المصرفي العالمي وخارج منطقة الدولار.
في تلك الأثناء وصلت نسبة النمو لديها 6٪ بسبب ذلك الصعود المذهل لأسعار المعادن. لم تقلل تلك الوفرة من وتيرة الاقتراض ولم تساهم، مع حجم الدين الخارجي ، في تحسين طروف الدولة الاقتصادية ولا وضعيتها المالية ، بل تم تبديد كل “عطية المعادن ” تلك دون أن يستفيد عامل واحد من زيادة الرواتب ولا فقير من تأمين اجتماعي ولا صحي ولا المواطن من تحسين الخدمات الصحية أو التعليمية ولا في دعم القطاعات الهشة، حتى أن اسنيم التي يجب أن تكون المستفيد الأول والمباشرمن هذا الازدهار في الأسعار ، وصلت ديونها تلك الفترة ل 1،3 مليار دولار وجعلتها على حافة الإفلاس .كما أن صوملك التي حُمِّلت كل تلك الديون ظلت ضعيفة وعاجزة عن تغطية مدينة نواذيبو بالكهرباء ولا تملك إلا مولدات متهالكة ولا تملك أي تكنلوجيا لتوزيع أو تخرين أو نقل الكهرباء. وهكذا تم بيع الفائض عن قدرة الشركة وليس عن حاجة البلد للسينغال …..
علينا أن نعرف ايضا أن الأوضاع كلها كانت
مشحونةبالتوتر وعدم اليقن بالمستقبل، ليس فقط مستقبل التعايش لكن أيضا انهيار البنية المؤسسية للدولة من حيث الترابط والتنسيق والقوة والفاعلية، وتم استبدال ذلك بالتعليمات والاوامر المباشرة دون أي تخطيط ولا دراسة، وانعدم مفهوم الاهلية والاختصاص، وكان شبح عجز الدولة عن الاستمرار في صرف الرواتب في وقتها مخيم على البلد، فقد ترك ولد عبد العزيز بعد تسييره المباشر 5 مليار فقط في الخزينة و 50 مليون دولار يمنحها صندوق النقد الدولي لدعم أداء الخزينة، قد حان وقت صرفها للبلد .
من هنا بدأ غزواني، لكن هناك ما هو أسوأ بالنسبة للنظام العام: خيبة الامل في الأطر وانعدام المرجعيات الفكرية والثقافية والوصول لنقطة تراكم فشل جميع نقاط البداية منذ الستينيات إلى 2019 ، فقد كانت كلها تنتهي بالفشل، فمن 1960 إلى 1978 انتهت بحرب، وفشل نظام المختار ولد داداه في كسب الرهانات الوطنية بالنسبة لبناء الانسان والمؤسسات، وكان عنوان الإنقلاب الانقاذ الوطني. ومن 1978 إلى 2005 وبأزمة اقتصادية وواحدة اجتماعيةسيئة تخيرت الانقلابات التي تخللتها في المصطلحات الجذابة الخلاص والتصحيح والتقويم. ومن 2009إلى 2019 افلاس مالي وأخلاقي للدولة. ومن هنا بدأ غزواني من حيث فشل الكل ومن حيث ستأخذ نتائج ذلك الفشل تنعكس على حياة الناس وعلى أداء الدولة وعدم جاهزية المؤسسات والإنسان وحيث لا توجد أي أساسات لبناء يزداد ثقلا فوق الرؤوس كل يوم. إنه بلد يرتعش أمام أتفه النكسات ..ومع ذلك ما زال في الكون من يريد أن يترأسه !!!
لم تكن هناك طريقة متفق حولها لاخراج البلد من هذا الوضع، أي لم يجد غزواني في الرفوف أي تفكير وطني ، كما لم تتم صياغة أي برنامج ثوري لتخليص البلد من وضعيته تلك التي تم خلالها انتزاع النظام العام والدولة الوطنية من جذورهما وتم إخضاعها للمزاج و الأوامر المباشرة ، وبالتالي نظام الفساد المطلق والعميق .وهكذا كان على غزواني أن يحمل وحده هذا التابوت ….إنه في الحقيقة بلد من شبه الأموات …لم تكن هناك أي طريقة جاهزة يمكن الاتفاق عليها سوي أن ادى غزواني عهدة بخمس سنوات عليه أن يواجه الحقيقة
التالية”: فشلا مركبا وغيابا للوطنية واستسلام النخبة وتركة ثقيلة من شعب مطحون ودولة مهشمة وقطاعات منفصمة ممزقة مفصولة عن بعضها من دون أي آليات لتدبير الوضع ولا لمواجهة أي طارئ . جميع الخطوط العامة للتدبير مقطوعة في النهاية: نظام عام بلا
قواعد ولا أسس ومقطع الأوصال. كنا نراقب بحذر كيف ستكون نهاية هذه العهدة او على الأقل: هل سيتمكن غزواني من تسيير حجم هذه التناقضات المميتة وتوصيل البلد لمحطة2024 سالما من دون تفكيك ؟لأن نمط تسيير ولد عبد العزيز الذي ادى إلى تطاير حقائق ومرجعيات البلد لا يمكن أن يقود إلا إلى وضع كارثي إن لم توجد حكمة ورزانة استثنائية …والحقيقة أن عهدة
غزواني بدأت منتهية في نظر الكل بسبب تلك الصورة القاتمة …
ومع ذلك بقيت حقيقة لايمكن اغفالها أن الجميع تحمس لغزواني في
اتجاهات مترامية بسبب أن البلد كان يقف على الرمضاء. وهكذا فتح غزواني بابه وقلبه للكل. لقد كانت لحظة رحمة عجيبة وهلل الجميع لها،
ومع ذلك خرج جميع من جالسه “بتخيل مفاده أنه يعرف الجانب الآخر للاشياء”، لكنهم لا يدركون الوضع الذي هو فيه. إنهم فقط يتمسكون بتصور عن قوة الدولة وقدرة الرئيس على فعل كل شيء بعيدا عن حساب الإكراهات ..إنه أول رئيس يعيش خارج المكان الذي يضعه فيه الناس من حجم الاكراهات !!
لقد خرج غزواني في إدارة الدولة من حيث لا ينتظره أحد، فلم يبق دقيقة واحدة في أسر عزيز ، كما تبنى طريقته في تقاسم القبضة مع الموظفين وفي السياسات والقطاعات الحكومية، و قطع روابط هذه القطاعات وصلاته بالفشل الذي يعني تسييرها للمصلحة الشخصية وبالارتجالية وارتهانها لأحد بما في ذلك أسرة الرئيس. وهذه هي أصعب خطوة لأن الفشل بحد ذاته نظام متماسك وقوي داخل المجتمع والدولة.
ومتماسك وقوي داخل الإدارة وآلية القرار ونظام الصفقات ونظام الانتخابات والنظام الاجتماعي. إنه يسري في عروق الدولة ويطوقها، بل هو جزء من كنهها. إنه بناء تراكمي بين الأجيال .
الخطوات المهمة التي لا يريد أحد الالتفات إليها هي تفعيل الإدارة في ضوء مصطلح “هذا غير ممكن “.
لابد أن تكون هناك أشياء غير ممكنةتتعلق بالحفاظ على المجال العمومي .
و لابد أن تكون هناك اجراءات تحافظ على ذلك ولا يمكن تجاوزها يمد لها كل الناس رقابهم بالاذعان .
لابد أن تكون هناك شفافية للصورة العامة والظروف المحيطة بكل ذلك .لقد كان رئيس الجمهورية هو أول من أعلن عن عدم رضاه عن أداء حكومته وانتقد جهودها على الملأ وعبر عن ذلك بضعف الإدارة وتبعه في ذلك الوزير الأول ووزير الاقتصاد ووزير النفط والمفتش العام للدولة. لم يكن هذا اعتباطا بل لعدم التغطية على الفشل وعدم تبينه، وكان البحث في الأطر والكفاءات من أبناء البلد جاريا بصفة دائمة. وهكذا تم تشكيل ثلاث حكومات لم تأخذ أي واحدة منها طابعا سياسيا محضا، وتم التركيز على القطاعات الآساسية.
لقد تم وقف نزيف بيع ممتلكات الدولة وفي التدخل في تسيير المسؤولين وفي توجيه الصفقات وتوجيه الميزانية وفي اختطاف الصفقات ومنافسة رجال الأعمال من طرف الرئيس وأسرته، وتقوية أجهزة الرقابة ومنحها كامل الصلاحيات، أي بعث الروح في المنهجية وليس في الانتقائية والعشوائية. وتم القيام بجملة من القرارات لتحسين ذلك،
وقد تم خلال ذلك البحث عن وزير للزراعة ووزير للصيد ووزير للثروة الحيوانية في الكفاءات. وكان البحث جاريا خارج الأطر المتعارف عليها عندنا للتعيين في الغالب. كان البحث عن الكفاءة ولا شيء غير الكفاءة .كان البلد يواجه أتفه النكسات المادية الناس الذين يعيشون في الخارج لا يتقيدون بكل تلك المعطيات، يحاولون تعليق جميع الأعمال التي نقوم بها وقياسها على النموذج “الدانماركي”.
صحيح أن الوزارة الأولى هاجعة أو تحتاج أن تقلع عن تحريك الأمور برؤوس الأصابع، لكن الحقيقة أن أبناءنا ونخبتنا تظلم البلد كثيرا عندما تريده أن يبدأ من نقطة النهاية لنمط وأسلوب تم تطويره في مجتمعات ودولة قديمة وقوية وتملك مؤسسات مهنية ووظيفية وتعمل في سياق قانوني متجذر.القوة في هذه الدول سبقت درجات التنظيم القصوى والتي لم تكن سوى نتاج لتلك القوةوالثقافة التي طورت هذا التنظيم،
لابد أن نخضع نحن للتعود، لابد من نقطة بداية مفتاحها “هذا غير ممكن “. يجب تسجيل هذه العبارة في النظام وفي العقليات وفي الإجراءات، ولابد من تدريب الناس عليها عمليا وفكريا وأخلاقيًا ،لكن لابد من بناء القوة التي تساعد على الدرجة العليا من التنظيم للوصول لحل مشكلة “الدانماركية “.
العالم تطور بمستويات أقل من التنظيم والدقة. نحن بحاجة لتلك المراحل وإلا لكانت كل المحاولات عبثية: تسقيف بيت من القش بالحديد المغلف بالحديد . إن غزواني اليوم وهو يسير في حقل من الألغام يحاول آن يبدأ بالحد الأدني من التنظيم في الوقت نفسه يريد أن يعيد التربية لأحضان الدولة ويدفع بالطبقات الهشة إلى الاعتقاد بأهمية الدولة التي تنظر لمآسيهم ويدعم القوة الشرائية للعمال ويمنح الحوافز للأطباء والمعلمين .لقد تضاعفت ميزانية الدولة بسبب الترشيد وزادت ثقتها المالية بسبب مراجعة الديون خاصة دين الكويت الذي ظل مستعصيا على جميع الأنظمة حيث أصبح أقل من 50٪ من الدخل الوطني الخام وتم تنفيذ أكثر من80٪ من المشاريع على النفقات العمومية وفي جميع القطاعات.
وبالرجوع لخطاب الرئيس اليوم بمناسبة عيد الاستقلال نلاحط انتعاش أغلب القطاعات الحكومية وارتفاع وتيرة التوظيف والاستثمار الكبير في القطاعات القاعدية والاجتماعية وزيادة رواتب الموظفين وتوسيع التأمين الصحي والدعم الاجتماعي. إنه خطاب زاخر بالإنجازات وبالروح الوطنية والتواضع، و تختفي فيه نشوة الرضى ومظاهر الافتخار عن الحصيلة وعدم محاكمة الظروف والأوضاع الدولية التي ستجعل من هذا العمل حقا حصيلة كبيرة انطلاقا من الظروف الاستثنائية الدولية والمحلية مثل جائحة كورونا وحرب أوكرانيا والأزمة الداخلية والأمنية والاقتصادية والفيضانات وغيرها ….
ألا تستحق هذه الجهود الكبيرة التي لا تتبعها منة ولا أذى، بل بهضم كبير للنفس، تقيما موضوعيا واعترافا بالإخلاص للبلد ولشعبه ؟.