لم آخذ درسا واحدا في اللغات خلال تعليمي الجامعي، باستثناء دروس معدودة في الإنجليزية في السنة الأولى. كان أستاذ هذه المادة رجلا متدينا (كاتولوكيا) هادئا ومهنيا يدعى "جانه-ماري" (يوحنا-مريم) ؛ لقد تأثر الرجل بأسفاره إلى المملكة المتحدة ودراسته فيها، في مظهره وسلوكه، إلى حد أصبح فيه بعض الطلاب الفرنسيين يسمونه "ثبريتيش" (البريطاني). ونظرا لهوايتي القديمة للغات، اهتممت بدرس "جانه-ماري" الواضح، فحصدت نتائج لا بأس بها في مادته، الشيء الذي نمّى علاقة ودية بيني وأستاذي. وفي يوم من الأيام، وجه إلي "جانه-ماري" دعوة شفهية لتناول الغداء، يوم الأحد، في بيته في "أوليفى"، إحدى الضواحي الراقية لمدينة "أورليانه".
في الوقت المتفق عليه، حضر "جانه-ماري" في سيارته أمام السكن الجامعي، وقادني إلى منزله الفخم و"الأخضر". قدم لي الأستاذ حرمه "ميسى" وأطفاله الثلاثة الصغار. بدا الأطفال متحمسين لمعرفة بعض التفاصيل عن موريتانيا، حيث كانوا قد تابعوا نسختين أو ثلاثة من"سباق باريس-داكار".
كنت متحفظا جدا، فلغتي الفرنسية لم تكن فنية ودقيقة بالمستوى الكافي، لكن "جانه-ماري" ظل يبذل جهودا لمساعدتي على التعبير بشكل واضح عن ما أردت. كانت "ميسى" (وهو اختزال للاسم "ماري-سيسيل")، ربة بيت شجاعة : تحضير الطعام، الاهتمام بالأطفال الصغار، والسهر على النظافة والانسجام داخل البيت.
كان ذلك الغداء المشترك الأول، بداية علاقة صداقة بيني وتلك الأسرة المحافظة الطيبة. لقد استدعيتهم جميعا لاحقا لتناول الشاي الموريتاني (أتاي) في الغرفة التي كنت أسكنها في الحي الجامعي. فأعجبوا، على ما بدا لي، بطريقة تحضير الشاي بالنعناع وبطعمه ؛ فتناولوا (مجاملة؟) كميات منه جعلتني أقلق وقتها على إمكانية النوم بالنسبة لهم، خلال الأيام الثلاث الموالية...
لقد زاروني مرات لاحقة لتناول الشاي، علما بأنني لم أكن يوما من كبار هواة هذا المشروب!
تطورت علاقتي بهذه الأسرة الطيبة إلى حد زيارة المنزل القديم الذي تربى فيه "جانه-ماري" في ولاية "لاكرهز" الريفية، وسط فرنسا ؛ خلال الزيارة، شرفني مضيفي بتنظيم زيارة لقصر قديم وفخم -قرب مدينة "بورگانف"- تسكنه أسرة أرستوقراطية تنحدر من فارس شارك في الحروب الصليبية، ووقع في الأسر على يد "صلاح الدين الأيوبي" (صالادينه). شرح لنا مالك القصر، أن جده المذكور تم فك أسره بناء على وعد منه ل-"صلاح الدين"، بأن يكون ضمن أجيال أسرته اللاحقة شخص يحمل لقب "صالادينه"، وقدم لنا ابنا له شابا اسمه "صالادينه"، قبل أن يؤكد لنا أن أسرته التزمت بالوعد في الماضي وستلتزم به مستقبلا... كما أراني "جانه-ماري" سلسلة جبال قال إن اسمها "جبال لي مور"، كشاهد مادي على الحدود الشمالية للتوغل العربي في فرنسا، خلال القرن الثامن الميلادي. لقد نظمنا معا، خلال عطلة شتوية، رحلة (الأولى بالنسبة لي) لممارسة رياضة التزحلق (على الثلج) في جبال الألب ( "ليمنوير-كورشفل-مريبل").
خلال عشاء مشترك في بيتهم، أصر الأطفال على أن نذهب جميعا لنرى قطتهم التي ولدت أربعة صغار في حديقة المنزل. حاولت أن أظهر قدرا من الاهتمام بالقطط، رغم أنني لم أمتلك قطا في حياتي وليست لي أية قصة مع هذه الحيوانات الذكية والغامضة...
كنت بعد ذلك، كلما التقينا، أسألهم، مجاملة، عن القطة وصغارها، فيسعدون لذلك ويخبرونني بتفاصيل كثيرة عن الموضوع. لم تفهمني "ميسى" الفهم الصحيح، حيث اقترحت علي مرة، بشكل مفاجئ : "بما أنك تسكن لوحدك في بيتك في الحي الجامعي، أود أن أهديك أحد القطط الأربعة". طبعا لم أستطع رفض الهدية المربكة... وذات ليلة، زارتني الأسرة كاملة، وكانت "ميسى" تحمل قفصا مفروشا بالقش والقماش وبداخله قطة صغيرة. كانت الأسرة الطيبة سعيدة وحاولتُ أن لا أعكر أجواء السعادة تلك، لكنه كان من الواضح لي تماما أنني بصدد الوقوع في ورطة مدوية... شرحت لي "ميسى" طريقة العناية بالقطة الصغيرة : معلبات تحتوي على غذاء متكامل، حيثيات النوم وحد أدنى من اللعب اليومي ؛ حسب "ميسى"، فإن القطط لا تتحمل الكبت!... كنت أطأطئ رأسي مجاملة، في وقت كانت تعليماتها بمثابة سحب سميكة تتراكم على بالي تدريجيا، دون أن أعرف كيف أتخلص منها. لقد شعرت بأن الأمر يتعلق بفارق ثقافي بيني وأصدقائي الجدد، وأنه كان علي أن لا أفاقمه عمدا... غادرت الأسرة الطيبة الغرفة الجامعية، فبقيت وجها لوجه مع أول قطة في حياتي، فوددت لو كنت أعرف لغة القطط لأشرح لها أن أهلي لم يربوني على حب الحيوانات بشكل عام والقطط بشكل خاص، وأنني أعرف من الفقراء ما يغنيني عن صرف المال عليها والعناية بها، وأن وقتي جله مخصص للدراسة، ثم أطلب منها بإلحاح أن تغادر بهدوء وعلى الفور الغرفة الصغيرة التي لا تسعنا، وأن لا تخبر أحدا بما حصل، خاصة أسرة "جانه-ماري" الطيبة وسكان الحي الجامعي الثرثارين، وأن تعذرني في النهاية!...
بدأت أشتري للقطة طعامها المعلب ومستلزماتها من مجمع "أوشانه" التجاري المجاور، فأصبحت تكاليفها تفوق ما أصرفه على نفسي!... كانت القطة كلما حزنت ماءت، فيجتمع بعض طلاب الطابق الذي كنت أسكن فيه، أمام غرفتي لمداعبتها واللعب معها والتخفيف عنها؛ لقد أدمن بعضهم على هذه الزيارة، الشيء الذي شكل لي حرجا بالنسبة لظروف المراجعة ليلا وتوقيت النوم.
كنت كلما دخلت الغرفة متعبا، حاولت القطة اللعب ؛ أتذكر أنه في إحدى الليالي، وبينما كنت أراجع تحضيرا لامتحان في مادة صعبة، في اليوم الموالي، اعتلت القطة الصغيرة الطاولة التي كنت أراجع عليها، ثم بدأت تعبث بالأوراق التي كنت أطالع محتواها ؛ حاولت إبعادها بلطف أكثر من مرة، لكنها كانت تعود تلقائيا، فدفعتها عن غير قصد حتى اصطدمت بالجدار، فبدأت تشكو بصوت عال، فتم دق باب الغرفة مباشرة. لقد هرع بعض الطلاب للاطمئنان مطولا على القطة!... كنت أعي تماما الخطورة القانونية في ما يتعلق بسوء معاملة الحيوانات، وأتجنب، قدر الإمكان، إيذاء القطة رغم استفزازاتها المتكررة!!... كان أعضاء أسرة "جانه-ماري" يستفسرون بالدوام عن ظروف القطة الصغيرة، غذائها وصحتها، فكنت أجيبهم بشكل إيجابي ومتفائل، دون أن أعبر عن أي ضجر حيالها.
أصبح الوضع لا يحتمل، فكان علي أن أجد مخرجا ؛ فالعطلة الصيفية على المشارف، ولا يمكنني إلغاء سفري إلى موريتانيا محافظة على راحة ورفاه قطة قبلتها مجاملة لأصدقاء طيبين!...
أخبرت مرة الأسرة الطيبة بأنني بصدد السفر إلى بلادي، أملا في أن يقترح علي أحدهم استعادة الهدية المزعجة والمكلفة!... إلا أن أحدًا لم يتقدم بمقترح، ففكرت بعدها جديا في تسليم القطة إلى مؤسسة حماية الحيوانات (س-ب-آ)...