وفاة العلاّمة حدّمين ولد فَحفُ خسارة كبيرة لموريتانيا وأصالتها. وتعني في ما تعنيه غيّاب جزء كبير من محظرة «اتويمرات». فالشيخ حدّمين كان له الدّور الرئيس في تدريس طُلاّب المحظرة وتوجيههم ومُساعدتهم. وهذا الدور كانَ مقاماً به من طرفه في حياة الراحل الشيخ الحاج، وخصوصاً في السنوات الأخيرة التي بلغ فيها منه الضعف مبلغاً. وعندما رحل الشيخ الحاج تعاظمت مسؤولية لمرابط حدّمين وارتكز حِملُ المحظرة كلياً عليه. وقد كانَ، كالعادة، أهلاً له.
كان الشيخ حدّمين هو المرجعيّة الكبرى لمحظرة «اتويمرات». عدا أنه الإمام الدائم للمسجدِ، فقد كان أيضاً المعلّم الأول للطلّاب: يتوجهون له لتدارس كتبهم ومتونهم وفهمها. وفي ليالٍ محدّدة من الأسبوع يتجمعون عنده لـ«الزرگ»، فيشاركهم ما يكتنف ممارسته من دعابة ومزاح.
أتذكّره الآن وهو يُقسمُ على الطلاّب في صباحات الشتاء القارسة بشربِ «اللّبن» الساخن، المحلوب توّاً. قائلاً لكلّ واحدٍ منهم: أنت يا فلان، اشرب لبن هذه البقرة كاملاً، وإلا أغضبتني. وأنتَ، يا فلان، شتشرب «التاديت» القادمة!
كان يعي تماماً أنّ الطلاّب هم أبناء له. ولهذا تراه لا يُفرّق بينهم ولا بين أبنائه في أيّ شيء. ففي لحظة التدارس كنّا ندرك تماماً أنه إنمّا أَعدّ حياته لهذا الموقف. أنْ يكون شيخاً يحيط به تلامذته من كل الجهات. وفعلاً كانوا يحيطون به من كل الجهات، جميع الجهات، على تنوّعها وتعددها.
أيّام وجودي في اتويمرات عاينتُ استعدادَ حدّمين واندفاعه المخلص والمتفاني في سبيلِ أن يُزوّج إحدى بناته، وكانت حافظة دارسة، من أحد طلاّب المحظرة. كان الطالب الزوج واحداً من بين جميع الطلاّب، بسيطاً، عاديّ الهيئة، ولكنّ نجابته واجتهاده، إضافةً لتقواه، جعلاَ لمرابط حدّمين يسعى على نحوٍ نادر ليُتمّم لهما الأمر دونما صعوبات. وهكذا في يُسرٍ، ودونما عرقلةٍ لنظام المحظرة ومراتبِه، صارَ الطالبُ النجيب للشيخ صهراً له. وعبّرَ هذا، بالنسبة للجميع، عن نمط شخصية حدّمين وتعلّقه بقيّم المحظرة والعلم والتجرّد.
بالنسبة لي كانَ لمرابط حدّمين محاطاً بهالة ضياء وهيبة قلّ نظيرهما. حتى اللحظة ما زالت الصورة التي شاهدته فيها لأوّل مرة عالقةً في ذهني: جالساً في محراب المسجد وشعر رأسه الأبيض متدلياً على الرداء الأسود على ظهره.
لقد سخّر حياته للمحظرة والمعرفة التقليدية. وكانَ ضالعاً، على نحو فريد، في علوم القرآن والفقه واللغة. وبهذا برهن على الصورة التي لدينا جميعاً عن العالم التقليدي الورع، والعامل بعلمه، الساعي لبثّه في الصدور. فإلى رحمة الله وجنّة رضوانه.