مؤخّراً شاهدت أحدهم يصف متابعيه بالأتباع! مبالغة قطعاً. إنّ من متابِعي، مثلاً، أعداء.
وبعض هؤلاء علاقته معي تربصيّة. فلو قلتُ حقاً لما شغله ذلك. ولكن لو هفوت فسيطير بذلك في أصقاع الأرض. إنّ علاقة هؤلاء بي كيدية ورقابية وتصيّدية، لا مجالسية.
ما أريد قوله هو أنّ ثمّة خلل أخلاقي في بنية هذا الفضاء.
سبب هذه المقدّمة هو أنّ فيسبوك الموريتاني فتح نقاشاً حول الأخلاق. ويبدو أنّ محور هذا النقاش هو القلق من تفشّي البذاءة.
إلاّ أنّ هذا جانِب بسيطٌ جداً من المعضلة الأخلاقية. لا أعتقِد أنّنا نتملِك نظريّة أخلاقيّة متكامِلة.
أخلاقنا هي عجمة من شيء يشبه أخلاق الواجِب وأخلاق الفضيلة والدِّين. ولكن هذه المثل الثلاثة تضعضعت مؤخّراً جداً.
طبعاً الثقافة الموريتانيّة تمايز دوائر الدِّين والأخلاق. هنالك بالأخصّ ثنائية الشائن والحرام، التي تستخدَم كثيراً في المنطِق الشعبي.
فثمّة أشياء شائنة ليست حراماً (والعكس). وطبعاً هذا ليس جديداً في النظريات الأخلاقية منذ محاورة "يوثيفرو"، التي تبتّ في علاقة التقوى والمقدّس بالأخلاقي والتي هي أساس النقاشات اللاحقة في "التحسين والتقبيح" .
نظريتنا في الشائن مضبوطة بنوع من أخلاق الواجب مترجمة في حِكم الماينغي واللاينبغي ("يتواسَ" و"ما يتواسَ").
إلاّ أنّ هذه الحِكم المضاربيّة لم تعد قادِرة على الإلهام في عصر عولمي.
ولذا فإنّ الشباب ضائع أخلاقياً. أوَلاً هي نظرية تراتبية، فالماينبغي مُحدّد بانتماءات وتطفيفات؛ واعتناقات الناس لهذه الأخلاق انتمائية، لا اقتناعية.
ولذا نجد الأكثرية يُبرّرون المخاريق في صفوفِهم ويحمِلون على مقابلِها في صفوف الآخرين. هذه هي العصبيّة الموريتانية التقليدية، أو إن شئت سمِها العشائرية: وهي نصرة الأخ، سواءاً كان عشائرياً أو حزبياً، والفحش في العدو. وهذا يُبرّر للكثيرين الكذب والفحش كما الستر وتبرير اللامبرّر، وإن كان في حقّ الأنبياء.
ولذا فإنّ معظَم حروب المقدّس (تقديس العلماء أو تكفير غريب الأقوال وضروب الاجتهاد أو المنافرة بين الناس)، التي تقسّم هذا الفضاء، هي تطفيفية. ثانياً هي تتناقض مع التصوّرات الكونية لأخلاق الواجِب.
ولن أفصِل في هذه لضيق الوقت، ولكنني أظن أنها نقطة واضِحة. أما أخلاق الفضيلة فهي تقوم على الاقتداء بالأخلاقيين إمّا في المجتمع أو في الدِّين.
فأمّا في الدِّين فلا بدّ من تحرير الإمكانيات الأخلاقية للدين من خلال التأويلية، وذلك متعذّر في ثقافة أصولية.
وأمّا الأخلاقيين المجتمعيين فهم أنفسهم سقطوا في البنية اللاأخلاقية للفضاء الافتراضي وهي بنية المزايدة والتربّص وعدم التحري والنميمة والتطفيف، وبالتالي فلا يقدِرون أن يكونوا سلطة أخلاقية.
أمّا في الدِّين فثمة فساد يومي له من قبل التسيّس. فقد لاحَظ سفيان بن عُيينة (ت 198هـ) أنّ أهل الحديث كانوا أكثَر الناس أدباً فصاروا أسوءهم أدباً.
ولا شكّ أنّ للأمر علاقة بدخولهم في التنافرات في البصرة وبغداد. لقد ناقَش المرحوم فريد الأنصاري في "الاستصنامات" هذه المسألة في العصر الحديث.
وقد عرَج عليها طه عبد الرحمن في سؤال الأخلاق (انظُر مثلاً في معرض حديثه الوجيز في ذلك العمل عن "الحركة التسيسية" للأخلاق). والواقِع أنّه توجد أزمة كبيرة هنا. فبعض الأعيان الذين يعملون في الدعوة على إدخال الناس في الإسلام يعملون في السياسة على إخراجِهم منه.
ومن هنا تتبيّن الكارثة الأخلاقية للدعوة السياسيّة. بل إنّني أعلم داعية يدعو الناس إلى الله في برنامِج يتقاضى عليه ويدعو عليهم في وقت النشاط السياسي. فكأنّه يعمل على الهداية في الدوام ويشتغِل على اللعن في الهواية! وهذا وغيره كثير.
خلاصة الأمر أنّ كثيراً من الناس محترمون ولكنّهم ليسوا فضلاء. ذلك أن الفضيلة، كما بيّن المعلِم الأول، مبنية على الاقتداء والنمذجة الأخلاقية وطرح السؤال الأخلاقي، وليس فقط السؤال السياسي، في كلّ ما نفعله وباستمرار.
أحياناً يُخيّل إليَ أنّ قلة يطرحون هذا السؤال. وجزءٌ من هذا هو أنّهم غير مدربين عليه. فكما بيّنت فإنّ الحركات الأخلاقية لم تعد أخلاقية، بل صارت سياسيّة.
والأسئلة الأخلاقية لا تُطرَح لا في المدرسة ولا في السياسة ولا في المجال العام.
الدكتور عباس أبرهام