إن إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويُقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليردّوا عليها وينقضوها وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلاً صحيحا!! وأين تجد الآن واحداً -مِن غير رجال الدين- يقرأ الشروح اللاتينية التي كُتبت على الأناجيل المقدسة؟! ومَن -سوى رجال الدين- يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء والرُّسُل؟ يا للحسرة"!!
تلكم كلمات كتبها القس الأندلسي ألفارو/ألبارو القرطبي (Alvaro de córdoba المتوفى 240هـ/854م) بحسِّ رجل الدين الذي يراقب ببعض الضيق وقوع أبناء ثقافته "المغلوبين" في هوى الثقافة العربية الإسلامية "الغالبة"؛ إذا استخدمنا التعبير الشهير لابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في ‘المقدمة‘.
ويُفْصِح هذا النص/الوثيقة الذي كتبه القس ألفارو -بغض النظر عن الروح المريرة التي تشيع بين سطوره فتشعّ منه- عن رحابة أفق الدولة الإسلامية الأندلسية طوال فترات ممتدة من حكمها.
إن هذا النص يؤكد أن تجربة الأندلس لم تكن فقط مجرد تجربة فريدة في التسامح والتعدد؛ ذلك أن الأمر تعدى إتاحة الحريات بأنواعها إلى تمكين التنوعات الإنسانية داخل هذه التجربة من أدوات الحضارة دون تفرقة، وليس أدل على ذلك من أن أهم فيلسوف في تاريخ اليهود وهو موسى بن ميمون (ت 601هـ/1204م) المعروف لدى الغرب بـ"ميمونِدس" شرح "الوصايا العشر" -التي ينسبها اليهود والمسيحيون إلى نبي الله موسى عليه السلام- في الأندلس حيث وُلد ونشأ وتعلم.
والحقيقة أن فلسفة التمكين هذه هي التي كانت وراء تبني غير المسلمين العادات الإسلامية واللغة العربية، حيث أعجِبوا أشد الإعجاب بالثقافة العربية وتسابقوا لتعلمها حتى نبغ العديد من كُتّابهم وعلمائهم بل وأمرائهم، وتولى بعضهم أعلى المراتب والمناصب في الدولة الإسلامية بالأندلس. هذا فضلا عن سبب آخر دفعهم لذلك؛ وهو ظاهرة مجالس الجدل والمناظرة في علوم الأديان التي كانت تُعقد في أندية وقصور الأندلس فتحولت إلى منتديات للنقاش والحوار، وبالتالي أصبحت آداب العرب موضع اهتمام ولكن من أجل التحدي لا الإعجاب.