منذ بدأ مسار ملف "فساد العشرية" والآلة الإعلامية المناوئة لفتح الملف تعزف على أكثر من وتر من أجل كسب جولة أمام الرأي العام، ولعل أبرز الأوتار التي تكرر عليها العزف، كان وتر التسييس؛ فمن وتر الاستهداف، لوتر تصفية حسابات الحقب الفارطة، لمحاولات التدويل التي لم تؤتي أكلها، رست سفينة الادعاءات على مرفأ التسييس ووضعت مراسيها في مياهها الضّحلة.
ولعل أبرز ما بيّن تهافت تلك الإدعاءات، من وجهة نظر المتابع، هو عدم استسلام السلطات للأمر لدرجة تحاكي التصامم والتجاهل، و"كلت الاعظام"، فجميع المحاولات التي تمت ممارستها على السلطة التنفيذية كي تزجّ بنفسها في الملف باءت بالفشل في النهاية؛ حتى الأسئلة التي وجهت للرجل الأول في السلطة التنفيذية، حول الملف في أكثر من خرجة إعلامية، امتنع عن إجابتها موضحا أن الأمر خارج اختصاصه، بوصفه رئيس للسلطة التنفيذية، أما كونه رئيس للمجلس الأعلى للقضاء فإن الملف لم يصل بعد لمرحلة تخوله التدخل فيه، وأن هناك سلطة موكلة به حسب ماتمليه النصوص هي صاحبة الرأي الأول والأخير فيه.
في النهاية عومل الرئيس السابق والمتهم الحالي وفق النصوص، رغم ما أُحيك ويحاك حول الزوبعة، بدأ من المسار التشريعي، ومرورا بمرحلة أعوان القضاء، وعبورا على جسر التحقيق، وانتهاء بالحرية المؤقتة، لأسباب صحية.
ولقراءة مابين السطور، في فصول القصة، لابد أن نستخلص الرسائل وفق مايمليه الحياد ، وتنطق به الموضوعية، فيما ترسمه ريشة الفترة التي بدأت من تشكيل لجنة التحقيق، وانتهت بالإفراج الصحي، دون أن تميل رِحالة الأحداث يمينا، أو تميد شمالا.
أ- حافظت السلطة التنفيذية على حياد شبه تام في جميع مراحل الملف، فقد امتنع رئيس الجمهورية عن الحديث حول الموضوع، كما امتنع أعضاء الحكومة عن ذلك، اللهم إلا فيما يخص تصريحات وردود نزرة، تصدر أحيانا عن الناطق باسم الحكومة، أو وزير العدل -الوزارة الوصية- حول حدث معين يتوجب توضيحه للرأي العام.
ب- غابت التوجيهات الحكومية عن الملف، وتُرِك دولة بين هيئات السلطة القضائية، تعالجه، كل حسب تخصصه، ووفق ماتمليه النصوص، ورغم جميع محاولات الدفاع توريطها في الملف، إلا أن أي قرينة لم تظهر أي تدخل لها في الملف.
ج- أثبتت معالجة ملف "فساد العشرية" أن بلادنا في مرحلة الحكم الحالية تسير سيرا حثيثا نحو تكريس دولة المؤسسات، التي يتم فيها الفصل بين السلطات، وتترسخ فيها القيم الديمقراطية، وفق مايقول الكُتّاب والمحللون.
د- غياب التنديد الدولي، والشجب والبيانات، حتى من الدول التي تعودت أن تحشر أنوفها في كل شوارد الدول النامية، أثبت أن ملف "فساد العشرية" يحترم جميع نصوص القانون الدولي، وأن أي حيف أو تجاوز لم يحصل في فقراته حتى الآن، وهذا أمر قلما يتحقق في منطقتنا وإقليمنا.
الخلاصة : كسبت موريتانيا حتى الآن من تحريك ملف "فساد العشرية" تكريس مبدأ المحاسبة، فمن حق أي موريتاني أن يحاسب من أختاره لتسيير شؤونه، ومن حقه أن يعرف الفرق بين البريئ منهم والمذنب، ومن مصلحة الكل أن يعامل بالقسطاس المستقيم، وذلك لا يتحقق إلا من خلال وجود قضاء شامخ لاتدخل لغيره في شؤونه، يعمل وفق النصوص فقط، وليس بتوجيهات الرجال وأمزجتهم.