إننا نسعى إلى إحقاق حق الطفل الموريتاني في النفاذ إلى العلم وحقه في إتقان اللغات الأجنبية دون أن يكون أحدهما عقبة في سبيل الآخر. وإن لإتقان اللغات الأجنبية أهمية بالغة لما يفتحه من نوافذ إلى العلم والمعرفة والى العمل والتجارة والتبادل, نوافذ تتسع حسب انتشار اللغة واستخدامها العلمي والمنطقة الجغرافية التي يعيش فيها المرء ويمارس فيها نشاطاته الكسبية. وإن إنزال اللغات الأجنبية منزلة دون العلم يبرره أن العلم محدد تنموي لا غنى عنه, وليس للتقليل من أهمية اللغات الأجنبية ودورها في التنمية فهي بالغة الأهمية, وإن إتقانها ممكن دون أن تنتصب عائقا بين الطفل والعلم.
يعرف العاملون على تدريس اللغات الأجنبية وكثير ممن درسها حديثا أن منظومة المستويات, حسب الإطار المرجعي الأوروبي المشترك للغات, تتشكل من مستويات سبع, تبدأ بالمستوىA0 وهو مستوى من لم يسبق له الاحتكاك باللغة, وتنتهي بالمستوىC2 وهو مستوى من فتحت له اللغة قلبها وقالبها يعرفها معرفة المتعلمين من أهلها, وبينهما مستويات خمس وهي 1A, 2A, 1B, 2B و1C. وأهم هذه المستويات 2B و1C. ودون الدخول في التفاصيل فان المستوى 2B هو الذي يسمح لمن حصل عليه بمتابعة الدراسة بهذه اللغة دون صعوبات معيقة, أما من حصل على المستوى 1C فقد أصبح متمكنا من اللغة بشكل يسمح له بممارسة كل ما يحتاجه بها, بما في ذلك التدريس. ويعود أصل هذه المنظومة إلى المجلس الأوروبي وهو كما هو معلوم ساحة للتنوع اللغوي, فلغاته الرسمية تتجاوز العشرين. وقد نتج عن الانتشار الواسع لهذه المنظومة اعتبارها مرجعية دولية للمستويات اللغوية .
يجب أن نعرف أن الغالبية الساحقة من الذين يدخلون الجامعات اليوم مستوياتهم في الفرنسية لا تصل إلى 2B, بما في ذلك الاختصاصات العلمية التي موادها تدرس في الثانوية بالفرنسية, وبما في ذلك الطلاب الأكثر تميزا الذين يتم قبولهم في أكثر المؤسسات انتقائية, وبعض مؤسسات التعليم العالي تعلم ذلك جيدا, لأنها تجري تقييما لمستويات الطلاب في الفرنسية ولديها إحصائيات دقيقة بذلك وهي بطبيعة الحال مستعدة لتسليمها لأية جهة معنية. إذن كيف نصمم آلية تضمن حصول أبنائنا مع نهاية المرحلة الثانوية على مستوى 2B وحصولهم على 1C عند تخرجهم من الجامعة في اللغتين الفرنسية والانكليزية دون أن تكون هذه اللغات عائقا أمام تحصيلهم العلمي في أي مرحلة من مراحل تعليمهم؟ هذا هو السؤال المتعلق بلغة التدريس واكتساب اللغات الأجنبية الذي يجب أن تسخر الوزارة والمجلس الأعلى للتهذيب والمشاورات التربوية مقدراتهم العقلية للإجابة عليه. ومما لا شك فيه أن الوزارة والمجلس الأعلى للتهذيب يمتلكون من العقول ما يفيض عن إجابة محكمة على هذا السؤال إذا توفرت الإرادة, والمقترح الذي أقدمه هنا لا يعدو أن يكون مادة للتفكير والإثراء.
إن الانتقال من مستوى معين من المستويات السبع التي ذكرنا إلى المستوى الذي يليه يتطلب عددا معلوما من ساعات التدريس وهي بالنسبة للفرنسية من المستوى الأدنى A0 إلى المستوى 2B مرورا بالمستويات الثلاث التي بينهما على التوالي 80, 120, 200 و250 ساعة تدريسية. وبالنسبة للانكليزية على التوالي 70, 150, 300 و200 ساعة تدريسية. وهو ما مجموعه في المتوسط حدود 700 ساعة تدريسية. وإننا من خلال برمجة ساعتين أسبوعيا لكل من اللغتين خلال المرحلة الابتدائية ابتداء من السنة الثانية وبرمجة ثلاث ساعات أسبوعيا خلال المرحلة الإعدادية والثانوية نقدم للتلميذ ما يزيد بعشرين في المائة تقريبا على ما يلزم لحصوله على مستوى 2B. ولكن ذلك وحده لا يكفي, فيجب أن نوفر الوسائل لعملية تدريس جيدة, وقد تطورت الوسائل التدريسية للغات في العقود الأخيرة وانخفضت كلفتها وأصبحت في متناول جميع الدول, فقراء العالم وأغنيائه.
ويجب إضافة لتوفير الوسائل التدريسية وضع آلية تحقق دورية مركزية من مستويات التلاميذ في اللغتين الفرنسية والانكليزية تنظمها الوزارة. آلية تتشكل من عمليات تقييم ثلاث, الأولى يجب أن تنظم مع نهاية السنة الأولى من الإعدادية وهدفها التحقق من وصول التلاميذ إلى المستوى 2A, والثانية مع نهاية السنة الرابعة من الإعدادية وهدفها التحقق من وصول التلاميذ إلى المستوى 1B, والثالثة مع نهاية السنة الأخيرة من الثانوية وهدفها التحقق من وصول التلاميذ إلى المستوى 2B, مع إخضاع التلاميذ الذين تظهر نتائج التقييم تأخرهم عن المستوى المطلوب لمرحلتهم الدراسية لدورة صيفية مكثفة بهدف تعويض التأخر وتمكينهم من المتابعة في السنة اللاحقة مع زملائهم دون صعوبات. بهذه الآلية, بشكلها هذا أو وفق نسق معدل, نؤمن اكتسابا مضمونا للغتين دون أن تقف أي منهما عقبة أمام فهم واستيعاب العلم.
وهنا يجب التفريق بين المرحلة الابتدائية من جهة والمرحلتين الإعدادية والثانوية من جهة أخرى. فالمرحلة الابتدائية هي مرحلة التماس بين الأطفال و اللغات الأجنبية ويجب أن يكون هذا التماس موفقا, ويجب أن ندرك انه خلال هذه المرحلة من العمر تكون المنظومة السمعية النطقية للأطفال لازالت مرنة قابلة لسماع وإنتاج جميع مخارج الحروف إلا في حالات استثنائية نادرة نسبيا تخص عددا قليلا من الأطفال, ويجب أن نستغل هذه المرونة التي سيفقدونها تدريجيا في المستقبل لتمكينهم من المخارج الصحيحة للحروف, ولذلك في هذه المرحلة يجب انتقاء المدرسين على أساس سلامة النطق, فهو محوري في هذه المرحلة لأن اختلالاته تشكل عائقا للفهم يصعب التغلب عليه في مراحل لاحقة.
إن الحاجة إلى اللغات الأجنبية وتأثيرها على الاستفادة من الفرص المتاحة داخل الوطن وخارجه لا يقتصر على الاختصاصات العلمية, ولذلك في المرحلة الجامعية يجب أن ندخل التدريس باللغتين الفرنسية والانكليزية في جميع الاختصاصات دون استثناء, لكي يحافظ طلابنا على المستويات اللغوية التي اكتسبوها في المراحل السابقة ويتمكنوا من تطويرها وليُعِدّهم ذلك للدراسة والعمل بكل من اللغتين في الداخل والخارج إذا احتاجوا إليه, على أن ندرس عشرين في المائة من المواد بكل من اللغتين, وأن يترك لكل قسم تحديد المواد التي ستدرس بالفرنسية والمواد التي ستدرس بالانكليزية حسب طبيعة المواد والطواقم المتوفرة لديه وتقديراته. ويجب أن تدرس المصطلحات العلمية والفنية في كل المواد باللغات الثلاث. وإنه من الضروري أن نبقي تدريس الغالبية المطلقة من المواد بالعربية في كل الاختصاصات ليتمكن الطلاب من العمل بها مستقبلا دون صعوبات, ولأن معرفة المتعلمين للعلوم بلغة المجتمع هي الوسيلة الوحيدة للنفاذ المعرفي وخلق ثقافة علمية يستوي فيها الجامعيون وغيرهم, كما أن العلم رافد أساسي للغة بالمفاهيم إذا قطع عنها هذا الرافد عرقل ذلك تطورها الطبيعي ولا أحد يريد ذلك للعربية.
إن أي إصلاح لا يزيل العائق اللغوي لن يكون له تأثير يذكر على المستويات لأنه لا يهيئ ظروف النفاذ العلمي. فهو لا يعدو أن يكون محاولة استغلال لرصيد الثقة الذي يمنح طبيعيا لكل جديد, وسيتبين لاحقا أنه مجرد كسب للوقت وإعادة قولبة للفشل.
وفق الله وأعان