من المعروف أنه كلما نضجت التجربة السياسية والتعاطي مع الشأن العام، كانت الآثار والتصرفات أكثر إعمالا للعقل وأكثر غنى وحنكة.. ولأن السياسي المعارض يوظف الكثير من المقاربات السياسية والميكانيزمات التعددية لإحداث الموقف المعارض، وتوليد الدور المنوط به في الرقابة والتفاعل مع الأغلبية كان لزاما عليه أن يحسن استخدام أوراق كثيرة لديه، وخصوصا أن يحسن الاستفادة من وجوده في بعض المؤسسات الديمقراطية احتراما لأصوات المواطنين الذين انتخبوه ممثلا لهم، لا أن يخذلهم ويتراجع عن أداء دوره الحيوي في منظومة التداول على الرأي، ومناخ الديمقراطية التشاركية التعددية.
إن كون الجمعية الوطنية (البرلمان) باعتبارها مؤسسة تشريعية ديمقراطية وطنية تمثل الشعب وتسعى لتحقيق مطالبه، فإنها تقوم بالأساس بالتمثيل التعددي بحسب حجم تمثيلها للمواطنين من قبل كل فريق برلماني فيها، والجميع يمارسون دورهم المشارك في التصويت سلبا أو إيجابا على مشاريع القوانين والتعديلات وغيرها، بغض النظر عن صاحب غالبية الأصوات وصاحب الغلبة، وهو ما يجعل من الجميع المشاركة في هاذا الدور تأدية لواجبهم والتزاما بإعلانهم الترشح وتمثيل المواطنين، لأن الديمقراطية تعني التشارك والتعدد الذي لا ينفي الآخر، وما يستلزم أن يكون هنالك كاسبون لمعركة التداول وخاسرون فيها، كما يحدث في الانتخابات المباشرة، التي لا يمكنها الاكتفاء بنتائج الاستطلاعات والتوقعات مهما كانت دقيقة لتلغي الاقتراع، وحسم التنافس لصالح من يظهر الغلبة، فضرورة المشاركة والتعبير عن الرأي، والتصويت واجب لا ينوب عنه شيء، في التجارب الديمقراطية الناضج.
لقد مثل انسحاب نواب المعارضة مساء أمس الثلاثاء من قاعة البرلمان قبيل التصويت على مشروع قانون الرموز الوطنية انتكاسة حقيقية لتجربة المعارضة التي كان يجب أن تتحلى بالديمقراطية واحترام رأي الأغلبية، وقبول المشاركة تأدية لدورها المنوط بها، وتمثيل من انتخبوهم لا أن يخذلوهم ويغيبون أصواتهم، إن هذا التصرف لا ينم عن روح وطنية تعي أن القوة كامنة في الاختلاف بالرأي، وأن الأغلبية لها القرار النهائي مهما كانت طبيعة القوى السياسية المشكلة لها.
إن انسحاب نواب المعارضة لا شك أنه سقطة جديدة في سبيل الوصول إلى تجربة معارضة ناضجة، كنا إلى وقت قريب نصفها بالحكيمة، وذلك في خضم ما تستعد له مختلف القوى السياسية والنقابية والمدنية المشاركة في تشاور وطني جامع ومفتوح أمام مختلف القضايا المطروحة. فظهور النواب البرلمانيين المعارضين أكثر انجذابا للإعلام للتعبير عن آراءهم، بدلا من الاكتفاء بطرحها في قاعة البرلمان (والذي يحظى بتغطية إعلامية كاملة)، أمر غريب فعلا ويستهجنه الجميع، ينضاف إليه المشاركة السياسية السلبية والخضوع لضغوط أجنداتهم الحزبية أكثر من تنفيذ رؤاهم التي انتخبوا من خلالها.
إننا بحاجة فعلا لمن يستطيع أن يختلف مع الآخر بإيجابية دون مصادرة الآراء والانسحاب كلما أحس بالهزيمة، إننا بحاجة لمعارضة برلمانية ناضجة تقوم بدورها بفاعلية وبوطنية، وليس لمجرد الصراخ في الشاشات وافتعال الأزمات وتشويه حقيقة المشهد الوطني العام، والتركيز على أمور تافهة، هي في الحقيقة تعيق تقدم البناء الوطني والعمل على تشييد دولة مؤسسات حقيقية، واحترام حقوق الإنسان، وحفظ كرامتهم.
ما ضر المعارضة الديمقراطية لو قامت بتجديد طبقتها السياسية في أقرب استحقاقات انتخابية، لتستطيع القيام بدورها المحوري وغير المتعارض مع سياسات الدولة التي هم جزء منها، فكيف بنواب برلمانيين لم يطلعوا على برنامج رئيس الجمهورية “تعهداتي” والسياسة العامة للحكومة باعتبارها مرجعا يقارنون معها، لكي لا يغردوا خارج السرب، المؤسف أن غالبية هؤلاء البرلمانيين ينطلقون من أجندات سياسية لا تستقيم تطلقها أحزابهم وهيئاتهم والتي يصعب أن يقارنوها مع سياسات حكومة لها برامجها المرسومة سلفا والتي عرضت عليهم مرارا، بالإضافة إلى عديد مشاريع القوانين المقدمة والتي تجمل توجه الدولة في ضبط الحق وحماية كرامة المواطنين.