تشرئب أعناق الموريتانيين هذه الأيام إلى لحظة التئام تشاور أو حوار وطني شامل ، يتم خلاله بحث ونقاش جميع القضايا الوطنية الجوهرية ؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والحقوقية ، ونأمل أن يحصل ذلك وفق مقاربات حصيفة ومعالجات مستنيرة وبحضور كافة النخب الوطنية ؛ السياسية والثقافية والعلمية وبمشاركة قادة الفكر وحملة الرأي وفقهاء القانون وخبراء التنمية ونشطاء المجتمع المدني.
ونتمنى أن يشكل هذا اللقاء سانحة تاريخية لينخرط الحاضرون والمشاركون فى حوارات جادة وقادرة على مواكبة متطلبات المرحلة ، طبقا لاستراتيجية مدروسة ورؤية واعية ؛ تتضمنها مسودة خارطة طريق ناجزة وأجندة توافقية جاهزة ؛ مستجيبة لمطالب وتطلعات فرقاء المشهد السياسي إلى خلق إجماع وطني وصياغة " عقد جمهوري" قادر على بناء نظام ديمقراطي صلب وقوي.
وتتسم ظروف التئام هذا التشاور بجملة من الخصوصيات ، قد تشكل عوامل قوة تساهم في نجاحه ونجاعة مخرجاته ، وفى مقدمتها ما تتسم به المرحلة من خصوصية فى نمط الحكامة وانفتاح يتخذ من الحكمة والحنكة أسلوبا ، ومن الرزانة والرصانة منهجا ومقاربة فى التعاطي مع الشأن العام ، فضلا عن المناخ السياسي الهادئ وفتح قنوات التواصل ومساحات التلاقي بين السلطة التنفيذية وأغلبيتها الداعمة من جهة ، وبين المعارضة الديمقراطية وممثليها من جهة ثانية ، وقد ترتب على ذلك الانفتاح غياب وجود أزمة سياسية ، واختفت نهائيا من المشهد لغة الاستقطاب وخطاب الاحتراب.
ولايعنى ذلك عدم وجود تحديات كبيرة في مجالات أخرى ؛ اقتصادية واجتماعية ، ولعل فى مقدمتها تحدى الجائحة الصحية التى ضربت الاقتصادات العالمية ، وعمقت أزمة الغلاء وصعوبة الحالة المعيشية ، فضلا عن التحديات التنموية والأمنية ، والمخاطر الجيو - استراتيجية الناجمة عن بعض حالات التوتر فى الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا.
إن كل ذلك يضع نخبنا اليوم أمام اختبار كبير لقياس وتقييم أدائها ، ومدى حرصها على تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري ، من خلال التعالى على المصالح الأنانية والابتعاد عن العقلية لبراكماتية الساعية لتحقيق مكاسب سياسية آنية ؛ فاللحظة تحتاج إلى نخبة وطنية تقود تحولا ديمقراطيا مجتمعيا ، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته ، وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية.
إن النخب السياسية الوطنية مدعوة - أكثر من أي وقت مضى- إلى لعب دورها التاريخي خلال هذه المرحلة ؛ عن طريق المشاركة القوية في عملية التغيير المجتمعي والنهوض التنموي وكسب الرهان السياسي ، وتحويل هذا التشاور إلى عرس ديمقراطي يؤسس لعهد جديد من قيم التلاحم والتآز وتعزيز الوحدة الوطنية ؛ على أسس الإنصاف والعدالة والمساواة وتكريس دولة القانون والمؤسسات ، وترسيخ الإصلاحات الدستورية والتشريعية وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة ، وتطوير أساليب الحكامة السياسية والاقتصادية.
إنها فرصة نادرة ينبغى أن نغتنمها ؛ مستعينين بعمق وأصالة شعبنا ، متسلحين بقوة وثراء تنوعنا ، بغية التفكير العميق في حاضرنا ، والتخطيط الدقيق لمستقبلنا لترتيب الأولويات وتصحيح الاختلالات وتجاوز التحديات ؛ لكي نبني صرح الثوابت والمشتركات بقلوب مفتوحة وعقول صريحة ، تنتهج أسلوب التشاور والتحاور والبيان بالحكمة والحجة والبرهان .