لم تعد أدوات التحليل المتبعة في بلدنا قادرةً على استيعاب الأحداث المتسارعة في سياقاتها ومآ لاتها، بحكم أن البُنيات السياسية شهدت تفككاً غير قابل للتوقع، نتيجة لاختفاء تلك التجاذبات التي كانت متحكمةً في بوصلة التموقعات في موريتانيا ما قبل 2019 ، يتعلق الأمر هنا بالقوميتين العربية والزنجية إضافة إلى الإسلام السياسي ناهيك عن اليسار العنيد.
انصهر هذا الضيف السياسي فجأة، وبكل تناقضاته، تحت يافطة المصلحة الشخصية، وصارت الموالاة تُنافَسُ في مبادراتها ومغازلتها لصاحب الكرسي من قبل خصوم تقليديين، فضلوا اللعب بالأدوات ذاتها، الأمر الذي أربك روتيناً ظل قائماً في موريتانيا منذ تأسيس حزب الشعب 1960 إلى نهاية حزب الاتحاد من أجل الجمهورية 2022 .
وهنا لابد من التمييز بين نوعين من الروتين يتعلق أو لهما بما يمكننا تسميته بالروتين العنيف الذي تكرر مرات عديدة، لكنه حافظ على الطبقة السياسية ذاتها، ضمن صيرورة لها قواعدها المركبة التي عملت بطرق مختلفة على إعادة تدوير المشهد السياسي من جديد بنفس الأوجه تقريباً، أما ثانيهما فهو الروتين السّلس الذي بدأه المرحوم إعلي ولد محمد فال في العام 2007، وتكرر مع ولد عبد العزيز في أولى مأمورية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
لم يعد خافياً أن هذين النمطين اللذين تعود عليهما الموريتانيون منذ نشأة الدولة يواجهان تحديات مختلفة تهدد قابليتهما للاستمرار، فالتوترات المقلقة في حدودنا الشرقية والشمالية، ليست سوى إرهاصات لميلاد مساع جادة لجعل موريتانيا ساحة لحروب بالوكالة، بدأت معالم هذا التوجه الجيو سياسي تأخذ أبعادا مختلفة، مثل تهجير الشباب وقتل مواطنينا على الحدود بشكل متكرر، ولا يمكننا في هذا الصدد استبعاد إقحام وسائل متطورة للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية، سواءً من خلال الدعايات المغرضة على وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر قراصنة محترفين لا قبل لنا بهم، على اعتبار أن الكل يسعى بوسائله الناعمة للتأثير في نتائج اقتراع شهر يونيو المقبل.المُلفت في الأمر أن عنصر المفاجأة بات محورياً في الاستحقاقات الرئاسية في القارة السمراء، نتيجة مخاوف الغرب من حماس بعض الضباط الشباب في الدول الإفريقية المتأثرين بتجارب مالي والنيجر وبوركينافاسو، هذه المخاوف دفعت استخبارات غربية لوضع ما يُسمى بإستراتيجيات احتواء الأعاصير، القائمة على تحالفات غير معلنة بين رؤساء سابقين وشباب تحركه رغبة في التغيير تعاني من العمى الإستراتيجي في تصورها للواقع، لإيهام الرأي العام بأن ثمة تغييراً جذرياً قد حدث، والحق أن المستعمر القديم مازال يتحكم في خيوط اللعبة، مع منح هوامش محددة سلفًا تفرض ضرورة التخلص من رؤساء كانوا فاعلين في وضع بات منتهِ الصلاحية بالمفهوم البرغماتي للكلمة.
ما حدث في الانتخابات الأخيرة في السنغال ليس سوى تجسيد لمقاربة "الهوامش المطاطة"، القابلة للانفجار التلقائي عند الحاجة، والظاهر أنه شجع العديد من الشباب الموريتانيين على الترشح للاستحقاقات الرئاسية القادمة، غير مدركين أن المحاكاة لا يمكنها أن تحرق مسافات تشكيل الوعي لدى الشعوب، لأن الوعي عمل تطبيقي يمر حتما عبر مسار من التجارب تنتج ذاتها من خلال عملية تراكمية واعية تتحدد معالمها بالانتماء للوطن والتضحية من أجله والارتباط بضمير جمعي يفكر بالمنطق ذاته ويتقاطع في نفس المصالح .
صحيح أن ثمة تذمراً كبيراً في أوساط الموريتانيين، لاسيما الشباب من ظاهرة احتكار الامتيازات وكل الوظائف السامية من قبل فئات محدودة، لم تعد تخضع لقانون التقاعد في البلد، الأمر الذي خلق وعيا جماعيا بضرورة التغيير، لكن هذا الوعي قائم في الأساس على ردات فعل غير واعية، لأنها تتبنى منطقا أحاديا لم يستطع بعد أن يستوعب الأساليب التي تمكنه من تجاوز أنانية تشتغل خارج منطق الدولة، ومع ذلك فمن غير المستبعد تكرار سيناريو بصيرو فاي سونكو في موريتانيا، لأن الشركاء الدوليين يدركون جيدا أن الاحتكار الذي تمارسه الطبقة الحاكمة في موريتانيا لم يعد يهدد أمنها الداخلي فحسب، بل إنه أصبح خطرا إستراتيجياً على المصالح الحيوية لحلف شمال الأطلسي.
عموما لا تخرج المفاجآت من عوالِم الصدف، بل تتكون ضمن سياقات تستعصي على الفهم في معظم مراحلها في وضع شبيه بما تشهده موريتانيا حاليا، لكن الأكيد أننا بحاجة لرجل أمني يتمتع بتجارب مختلفة، وأعتقد أن الرئيس الحالي هو وحده المهيأ لإدارة مرحلة بهذه الصعوبة، بعيدا عن حماسة البعض لموضة المفاجآت السياسية التي لاتخدم بالضرورة مصلحة البلد في ظل وضع دولي بالغ التعقيد.