ترتبط موريتانيا بعلاقات متشابكة مع المغرب الأقصى وهي علاقات متعددة الأبعاد والمجالات، ثقافية ، وسياسية ، واقتصادية واجتماعية ، ولكل مجال من هذه المجالات شخصيات صنعت بعد تلك العلاقة ومكنت لها في ذاكرة التاريخ ومن الشخصيات التي حفظت لنا المصادر دورها في مجال العلاقات الثقافية بين البلدين ، شيخ قراء هذا القطر سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي ت1145هـ الذي استقر في منطقة الجنوب المغربي عند مقفله من الحج مع بداية القرن الثاني عشر ولازم العلامة وحيد دهره وفريد عصره سيدي أحمد الحبيب اللمطي السجلماسي وأخذ عنه علما وافرا وأجازه في عديد المجالات العلمية فعليه أخذ إجازته في القرآن التي انتشرت في عموم منطقة الصحراء والساحل ، كما أجازه إجازة في التصوف خاصة الفرع الناصري من الطريقة الشاذلية.
تصادف رجوع شيخ القراء من تلك الرحلة في حدود سنه 1125هـ مع حدث بارز عرفته بلاد شنقيط وهو بروز أولاد أمبارك كقوة صاعدة استطاعت أن تحسم التفوق في منطقة الحوض بعد الإنتصار على المجموعات التي كانت مسيطرة فيه كأولاد بوفايده وغيرهم ، فقد كان أولاد أمبارك قد انهو لتوهم معركة كساري ضد أولاد بوفايده وذلك سنة 1124هـ ويبدو أن مشايخ الطريقة الناصرية خاصة تلامذة أحمد الحبيب اللمطي السجلماسي من المنطقة وعلى رأسهم التنواجيوي قد انتهزوا فرصة هذا المشروع السياسي الجديد فعقدوا تحالفا مع أمراء أولاد أمبارك في خطوة تذكرنا بنفس مافعله تلامذة وجاج بن زلوي اللمطي أيام قيام دولة المرابطين ، وقد استفادت إمارة أولاد امبارك من جهود هؤلاء العلماء في إطار نشر الثقافة العربية الإسلامية وتأسيس المحاظرالقرآنية البدوية بكثرة في مجال الإمارة.
ولايغيب عن أذهاننا أيضا أن شيخ القراء كان معاصرا للسلطان العلوي المولى إسماعيل ويبدو جليا أن علاقته بالسلطان إن لم تكن المصادر تحدثت عنها وذكرتها إلا أن قرائن الأحوال تقول أنه بلا شك قد ربطته بالسلطان علاقات وطيدة بحكم اهتمام السلطان بصحراء شنقيط وبأعيانها من الأمراء والعلماء خاصة مجال شيخ القراء الجغرافي الذي تذكر المصادر أن المولى إسماعيل إعترف بسلطة أهل بهدل فيه خاصة السلطان بهدل وابنه هنون اللذين أسسا سلطتهم في باقنه وأجزاء من الحوض، و تشير المصادر إلى أن ميناء الصويره كان يشكل ميناء انطلاق تجار المغرب الأقصى باتجاه مراكز التجارة في المجال لمباركي كما يحدثنا بذلك مونكو ابارك في رحلته المشهورة .
ويبدو أن الزاوية الناصرية شكلت نقطة الوصل بين شيخ القراء والعديد من الشخصيات السياسية والدينية بالمغرب الأقصى خاصة سلاطين الدولة العلوية وهي علاقة يبدو أنها بقيت في خلف أعيان مجتمع التنواجيوي حيث تزودنا رسالة الشيخ سيدي المختار الكنتي إلى السلطان سيدي محمد بن عبد الله ت 1204هـ في شأن تولية الحيوني باسم أحد أعيان تنواجيو يدعى ابوبكر التنواجيوي يبدو من كلام الكنتي أنه شخص مقرب من السلطان ومئتمن على رسائله إلى أعيان المجال الصحراوي ومن ضمنهم الكنتي .
وعودة إلى رحلة التنواجيوي المذكورة فإن قلة من المؤرخين اعتنو بها وبتأثيرها وذلك لغياب معلومات وفيرة عنها لأنها ليست من الرحلات المدونة وممن نبه اليها وإلى أهميتها من المؤرخين الدكتور ددود ولد عبد الله الذي اعتبر أن التنواجيوي " يعتبر ممن أثرت الرحلة في مسارهم الفكري ورجعوا بدعوات أضافت جديدا الي الساحة الفكرية في المنطقة"
ويقول عنها حماه الله بن السالم متسائلا هل رجع التنواجيوي من رحلته الحجية تلك ضمن ركب الحج المغربي ؟ " في القرن الثاني عشر الهجري 18م نجد شيخ القراء في زمانه عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي يرحل إلى الحج وفي طريق عودته يمر بسجلماسة فيلقى عالمها سيدي أحمد الحبيب اللمطي ويتلقى عنه القراءات السبع ونقل عنه على وجه خاص مسألة القراءة بالجيم الشديدة التي سيكون التنواجيوي ناشر سندها في الصحراء والممكن له فيها ... وبذلك ساهم الحج والركب الشنقيطي المار من سجلماسة في نقل أهم أثر في علوم القراءات إلى بلاد شنقيط"
ويمكننا رصد المكانة العلمية للتنواجيوي ورحلته من خلال أقوال المؤرخين والعلماء الذين تعرضوا لذكرتلك الرحلة وصاحبها ومن أهم تلك الأقوال والإشارات النماذج التالية :
يقول أبي عبد الله الطالب محمد بن أبي بكر البرتلي الولاتي مؤلف كتاب فتح الشكور في تراجم أعيان علماء التكرور: " هو الشيخ الأمام الفقيه المقرئ النحوي اللغوي المتفنن العالم العلامة وحيد دهره وفريد عصره حامل لواء السبع أبو محمد سيدي عبدالله بن ابي بكر التنواجيوي رحمه الله تعالى كان رحمه الله تعالى أحد الأعلام المشهورين ,والائمة المذكورين جد في طلب العلم وبلغ الغاية القصوى ..... وأتى بخزانة نفيسة ووجد الناس يلحنون في القراءة ويصحفون في الحروف ، فأزال اللحن والتصحيف عنهم ولاسيما مسألة الجيم المشهورة ، وصحح القرآن وجوده وقصده الناس وأنتفعوا به، وأنتفع به خلق كثير فصاروا أئمة يقتدى بهم.
ويقول الطالب أبي بكر بن محمد بن اجبير العلوشي في تقريظ على رسالة الجيم للتنواجيوي : " الحمد لله الذي أودعنا الفصاحة في لسان المقال ، وأنقذنا بفضله بكلمة الحق من غي الضلال ، المنعم علينا بهداية الإسلام ، وتبيين الحلال الطيب من الحرام ، ومن نعمه علينا مجيئ الهمام ، الجامع بين المعقول والمنقول ، سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي الصحيح الدراية والنقول ، الذي أظهر لنا صفة حرف الجيم الشديدة ، بعد طول اللحن القبيح ، كما أن دأبه تبيين معضل غامض بأشفى نقل صحيح ، الصادق عليه الإكرام من قولهم (عند الإمتحان يكرم المرء أو يهان) جزاه الله عنا وعن جميع المسلمين لنفعه العام لهم بالإحسان"
ويقول عنه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي ت 1233هـ في رفع الخفاء عن منع ابدال الهمزة بالهاء وطرد الدخيل عن حروف التنزيل: " أقام بشنجيط سنتين يأخذ أهلها عنه القراءة عن مهارة وتحقيق وإمعان نظر وتدقيق ، ثم رحل إلى أهله تنواجيو ، وأقام 18عاما ينشر العلوم ، لكن الغالب عليه نشر القرآن، ، حتى صار يقول " نحن قرآنيون"وقد بلغني أنه أقام في طلب العلم بين المغرب والمشرق ثلاثين سنة"
ويقول عنه الشيخ سيديا الكبير ت1285هـ " ماكان مؤخوذا منها أي القراءة عن سيدي عبد الله بن أبي بكر التنواجيوي فهو صحيح لعدالته"
ويقول عنه الدنبجه بن معاوية في تأليفه واضح البرهان في تراجم أشياخي في القرآن:
" هذه الرواية التي كان يقرأ بها التنواجيوي ظهرت شمسها في البلاد الموريتانية ، نشرها حرمه بن عبد الجليل في بلاد الكبله من موريتانيا ، وأحمد بن بده بعده ، وجيمها الشديدة هي العامة الفاشية الآن في مقارئ البلاد الإسلامية"
ويقول عنه فضيلة الشيخ محمد محفوظ ولد محمد الأمين في مؤلفه نشر الفضيلة في تاريخ القبيلة: " اشتغل بجمع وتحصيل الكتب بالشراء والنسخ حتى جمع خزانة فريدة في جميع العلوم الشرعية، وقد كانت خزانته تعد أهم نواة للخزانة العامة الفريدة التي كانت متداولة عند قبيلة تنواجيو سواء فيما يتعلق بعلوم القرآن ، أو الحديث أو الفقه، أو النحو أو غير ذلك، وقد ضاعت أكثر أصول تلك الخزانات .... ولما رجع إلى أرض الحوض كان مثار إعجاب أهل البلد فتوجه نحوه الطلبة من كل حدب وصوب طلبا للإرتواء من معارفه ، فجلس يعلم تلك العلوم التي تخرج فيها
ويقول عنه محمد المختار ولد أباه في كتابه تاريخ القراءات في المشرق والمغرب :
" إن تأسيس مدارس قرآنية لم يتم في شكل منتظم ومتواصل إلا بعد رجوع التنواجيوي من تافلالت، ومنذ ذلك العهد انطلقت حركة نشاط تدريس هذا العلم وازدهرت في عدة مناطق من شرق اقليم شنقيط"
ويقول عنه يحي بن البراء في جزء التراجم من موسوعته المجموعة الكبرى للفتاوي: " يعد من أوائل العلماء الذين نشروا سند الفرع الناصري من الطريقة الشاذلية"
ويقول عنه أحمد كوري بن يابه السالكي في مقدمة تحقيق كتاب النقل الموسوم بتبيين ماخالف فيه الحاج المرحوم : " إذا استحضرنا شهادات المختصين عن المكانة التي وصل إليها الشناقطة في علمي الرسم والضبط ، سندرك فضل الإمام التنواجيوي ونجاحه في غرس هذين العلمين في هذه التربة حتى اثمرت شجرتهما الطيبة
وخلاصة للقول تعد الترجمة التي عقدها مؤلف كتاب فتح الشكور للتنواجيوي كفيلة بلفت انتباه الباحثين الي مكانة هذا الشيخ العلمية كرائد للنهضة الثقافية في منطقة غرب الصحراء وجوارها من السودان الغربي خلال النصف الأول من القرن الثاني عشر هجري، ففي هذه الترجمة اشارات مهمة تدل على أن له الفضل في انتشار الأسانيد القرآنية وعلم القراءات والتجويد في تلك الحقبة، وأنه لعب دورا كبيرا في تعميق هذه المعارف المتخصصة وغيرها لدي النخب العلمية في "موريتانيا" وجوارها جنوبا، كما لعب دورا بارزا في تعريب المنطقة، فكانت جهوده في مايعرف اصطلاحا بقضايا ملاحن القراء بمثابة دروس في الفصاحة والنطق السليم لللغة العربية، وشكلت نوازله في هذا المجال مثارا مهما لقضايا ومساجلات علمية وفكرية ولغوية اثرت الساحة الثقافية في المنطقة، وأسست للتعمق في علوم اللغة من نحو وبلاغة
وبالتالي فإن رحلة التنواجيوي التي مكنته من لعب هذا الدور الثقافي الرائد تعد إحدى الرحلات العلمية الهامة التي وطدت العلاقة الثقافية بين موريتانيا والمغرب وشكلت أكثر المحطات أهمية في تاريخ التواصل العلمي والثقافي بين البلدين .
والله ولي التوفيق