لقد كانت مواقف رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني من القضية الفلسطينية أكثر من ناصعة؛ وكان لتعاطيه مع الأحداث الجارية فى غزة وقع خاص على النفس، بحكم قوة الموقف، ووضوحه، ورفض الإنسياق وراء الحملة الأمريكية، أو ربط مواقف البلاد الخارجية من قضية المسلمين المركزية بأي مواقف عالمية أو إقليمية، مهما كان حجم التقدير والتعاون والشراكة مع الطرف الآخر فى العديد من الملفات الإقتصادية والأمنية والسياسية.
لكن خذل الرجل من قبل إعلامه، وأضاعه بعض معاونيه؛ وبات القائمون علي الديوان والمكتب الإعلامي يواجهون الواقع بكل تحدياته دون إسناد من المؤسسات الإعلامية الأخرى؛ أو عشرات الإعلاميين والسياسيين المكلفين بالإعلام فى مجمل الدوائر الحكومية، وكأن دورهم داخل المنظومة التنفيذية كتابة خطاب للوزير أو مرافقة الآمر بالصرف ، أو الظهور خلف أعضاء الحكومة فى الأنشطة العامة ؛ وإسلام الرئيس الممسك بزمام الأمور للمجهول دون رقيب أو حسيب .
إنه فقدان الوعي بالمصير المشترك، أو غياب الإحساس بالمسؤولية التضامنية داخل الجهاز التنفيذي.
أما كبار الإعلاميين والسياسيين الذين أسندت إليهم مهام حيوية وتربعوا علي رأس مؤسسات عمومية وأخري سيادية ، ذات تأثير واسع فى الوسط الإعلامي (ضبطًا وتوجيها) ؛ فقد أنشغلوا بعبادة الذات والعمل من أجل الخروج من السلطة بمغانم المكلفين بالتسيير دون غرم أو جهد يفقد صاحبه خط الكاتب والمحلل السياسي، الواقف على مسافة واحدة من كل الشركاء داخل البلد.
لقد كان تسيير الموقف الإعلامي أكثر من غريب، فلا الحزب الحاكم تحمل مسؤولية توجيه الرأي العام ، مكتفيا ببيان يشيد فيه بالتدوينة والخطاب؛ تماما كما فعل حزب زعيم المعارضة، ولا الوزير الأول (الرجل الثاني فى هرم السلطة التنفيذية) تواصل مع النخب الإعلامية والسياسية لإظهار قوة الموقف الموريتاني ، وحجم التحول الحاصل فى الخطاب الصادر من هرم السلطة التنفيذية، ولا النخبة الموالية للرجل فى مؤسسات الإعلام العمومي منحت خطابه ومشاركاته القارية وإعلاناته السيادية (تنكيس الأعلام والحداد ) مثل ماتمنح على الأقل لمحاربة الجراد الآكل للأشجار فى تغطياتها اليومية.
لقد صدمت كثيرا وأنا أتابع اهتمام الإعلام المحلى فى الأردن بالأخبار الواردة من أنيويورك وتفاصيل النقاش داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة حول الأوضاع فى غزة (بدعوة مشتركة من موريتانيا والأردن)، وكيف حضر الأردن سياسيا وإعلاميا للقرار بإرسال وزير خارجيته واستغلال المنبر لتوجيه خطاب إعلامي باللغة العربية، ليفهم أهل القضية أن فيه نظاما عربيا يهتم بما يجري من عدوان وقتل وتدمير، بينما كان خطابنا داخل المنبر الذى أتيح لنا موجها نحو الموزمبيق أو غينيا كوناكري ….
أما إعلامنا فقد كان منشغلا بإثارة الخلاف فى الوقت الغلط، وإظهار تبايناتنا المحلية فى وقت ننشد فيه الإجماع، ونشر غسيلنا الداخلي فى وقت لاترغب فيه النفس أن تستمع لغير كلمات التضامن والأخوة؛ لقد كان برنامج التلفزيون عن دور الأحزاب السياسية كاشفا عن حجم التبلد فى الإحساس الذي وصلت إليه نخبنا المكلفة بالإعلام فى الوقت الراهن؛ إذ كيف نناقش ما يوسع الشقة بيننا فى وقت ننشد فيه الإجماع الداخلى، ونطرح مشاكلنا الجزئية فى وقت تحضر فيه الإبادة الجماعية بكل أشكالها، وفى المربع القريب من الديار.
حتى من أراد أن يتضامن من منتخبينا مع المحافظة على الصرف المالى ، أختار أن يشعرنا هو الآخر - دون وعي ربما - ببعد المسافة بيننا وبين القدس الشريف ؛ وكأن المسافة بين الفرد ومقدساته تقاس بالأمتار .. إنه ضعف الوعي الإعلامي، وقلة التوفيق، وغياب المشورة.
إن المواقف الجميلة يقتلها الإعلام السيئ، والقرارات الصائبة يشوهها الفعل السياسي غير الواعي بآليات النفاذ للرأي العام، وخذلان المحيط القريب أكثر ضررا وتأثيرا من تآمر المنابذ البعيد.